الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»
.تفسير الآية رقم (87): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87)}{الجحيم ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طيبات مَا أَحَلَّ الله لَكُمْ} أي لذائذ ذلك وما تميل إليه القلوب منه كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الرهبانية ترغيب المؤمنين في كسر النفس ورفض الشهوات عقب سبحانه ذلك بالنهي عن الإفراط في هذا الباب أي لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، وقيل: لا تلتزموا تحريمها بنحو يمين، وقيل: لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدًا منكم، وكون المعنى لا تحرموها على غيركم بالفتوى والحكم مما لا يلتفت إليه. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس يومًا فذكر الناس ووصف القيامة فرق الناس وبكوا واجتمع عشرة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم في بيت عثمان بن مظعون الجمحي وهم علي كرم الله تعالى وجهه، وأبو بكر رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن مسعود، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر والمقداد بن الأسود وسلمان الفارسي ومعقل بن مقرن، وصاحب البيت واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض وهم بعضهم أن يجب مذاكيره فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى دار عثمان فلم يصادفه فقال لامرأته أم حكيم: أحق ما بلغني عن زوجك وأصحابه؟ فكرهت أن تنكر إذ سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها فقالت: يا رسول الله إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل عثمان فأخبرته بذلك أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه فقال عليه الصلاة والسلام لهم: انبئت أنكم اتفقتم على كذا وكذا قال: نعم يا رسول الله وما أردنا إلا الخير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر بذلك ثم قال عليه الصلاة والسلام: «إن لأنفسكم عليكم حقًا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم وآتي النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني» ثم جمع الناس وخطبهم فقال: «ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانًا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد أعبدوا الله تعالى ولا تشركوا به شيئًا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدد الله تعالى عليهم فأولئك بقاياهم في الديار والصوامع».فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي عن أبي عبد الله رضي الله عنه أن الآية نزلت في علي كرم الله تعالى وجهه وبلال وعثمان بن مظعون فأما علي كرم الله تعالى وجهه فإنه حلف أن لا ينام بالليل أبدًا إلا ما شاء الله تعالى، وأما بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدًا وأما عثمان فإنه حلف أن لا ينكح أبدًا. وروي أيضًا غير ذلك ولم نقف على رواية فيها ما يدل على أن هذا التحريم كان على الغير بالفتوى والحكم كما ذهب إليه هذا القائل. ومع هذا يبعده ما يأتي بعد من الأمر بالأكل. ولا ينافي هذا النهي أن الله تعالى مدح النصارى بالرهبانية فرب ممدوح بالنسبة إلى قوم مذموم بالنسبة إلى آخرين.وقوله تعالى: {وَلاَ تَعْتَدُواْ} تأكيد للنهي السابق أي لا تتعدوا حدود ما أحل سبحانه لكم إلى ما حرم جل شأنه عليكم أو نهى عن تحليل الحرام بعد النهي عن تحريم الحلال فيكون تأسيسًا. ويحتمل أن يكون نهيًا عن الإسراف في الحلال، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه ومجاهد وقتادة أن المراد لا تجبوا أنفسكم ولا يخفى أن الجب فرد من أفراد الاعتداء وتجاوز الحدود والحمل على الأعم أعم فائدة. وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} في موضع التعليل لما قبله. وقد تقدمت الإشارة إلى أن نفي محبة الله سبحانه لشيء مستلزم لبغضه له لعدم الواسطة في حقه تعالى..تفسير الآية رقم (88): {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)}{وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حلالا طَيّبًا} أي كلوا ما حل لكم وطاب مما رزقكم الله تعالى فحلالًا مفعول به لكلوا و{مِمَّا رَزَقَكُمُ} إما حال منه وقد كان في الأصل صفة له إلا أن صفة النكرة إذا قدمت صارت حالًا أو متعلق بكلوا ومن ابتدائية. ويحتمل أن يكون في موضع المفعول لكلوا على معنى أنه صفة مفعول له قائمة مقامه أي شيئًا مما رزقكم أو بجعله نفسه مفعولًا بتأويل بعض إلا أن في هذا تكلفًا. و{حلالا} حال من الموضول أو من عائده المحذوف أو صفة لمصدر محذوف أي أكلًا حلالًا. وعلى الوجوه كلها الآية دليل لنا في شمول الرزق للحلال والحرام إذ لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة سوى التأكيد وهو خلاف الظاهر في مثل ذلك.{واتقوا الله الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} استدعاء إلى التقوى وامتثال الوصية بوجه حسن. والآية ظاهرة في أن أكل اللذائذ لا ينافي التقوى، وقد أكل صلى الله عليه وسلم ثريد اللحم ومدحه وكان يحب الحلوى. وقد فصلت الأخبار ما كان يأكله عليه الصلاة والسلام وأواني الكتب ملأى من ذلك. وروي أن الحسن كان يأكل الفالوذج فدخل عليه فرقد السنجي فقال: يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال: لا آكله ولا أحب أكله فأقبل الحسن على غيره كالمتعجب وقال: لعاب النحل بلعاب البر مع سمن البقر هل يعيبه مسلم، وذكر الطبرسي أن فيها دلالة على النهي عن الترهب وترك النكاح وقد جاء في غير ما خبر أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله تعالى لم يبعثني بالرهبانية» وقال عليه الصلاة والسلام في خبر طويل: «شراركم عزابكم وأراذل موتاكم عزابكم» وعن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بالباءة وينهانا عن التبتل نهيًا شديدًا». وعن أبي نجيح قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان موسرًا لأن ينكح فلم ينكح فليس مني» إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة..تفسير الآية رقم (89): {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)}{لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِي أيمانكم} اللغو في اليمين الساقط الذي لا يتعلق به حكم وهو عندنا أن يحلف على أمر مضى يظنه كذلك فإن علمه على خلافه فاليمين غموس، وروي ذلك عن مجاهد. وعند الشافعي رحمه الله تعالى ما يسبق إليه اللسان من غير نية اليمين وهو المروى عن أبي جعفر وأبي عبد الله وعائشة رضي الله تعالى عنهم، والأدلة على المذهبين مبسوطة في الفروع والأصول وقد تقدم شطر من الكلام على ذلك، و{فِى أيمانكم} إما متعلق باللغو فإنه يقال لغا في يمينه لغوًا وإما حذوف وقع حالًا منه أي كائنًا أو واقعًا في أيمانكم؛ وجوز أن يكون متعلقًا بيؤاخذكم، وقيل عليه: إنه لا يظهر ربطه بالمؤاخذة إلا أن يجعل في للعلة كما في «إن امرأة دخلت النار في هرة» {ولكن يُؤَاخِذُكُم بما تَنقُضُواْ الايمان} أي بتعقيدكم الأيمان وتوثيقها بالقصد والنية فما مصدرية، وقيل: إنها موصولة والعائد محذوف أي بما عقدتم الأيمان عليه. ورجح الأول بأن الكلام في مقابلة اللغو وبأنه خال عن مؤنة التقدير، وقال بعضهم: إن ذلك التقدير في غير محله لأن شرط حذف العائد المجرور أن يكون مجرورًا ثل ما جر به الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا وما هنا ليس كذلك فليتدبر؛ والمعنى: ولكن يؤاخذكم بنكث ما عقدتم أو لكن يؤاخذكم بما عقدتموها إذا حنثتم وحذف ذلك للعلم به، والمراد بالمؤاخذة المؤاخذة في الدنيا وهي الإثم والكفارة فلا إشكال في تقدير الظرف، وتعقيد الأيمان شامل للغموس عند الشافعية وفيه كفارة عندهم وأما عندنا فلا كفارة ولا حنث.وقرأ حمزة والكسائي وابن عياش عن عاصم {عَقَّدتُّمُ} بالتخفيف، وابن عامر برواية ابن ذكوان {عاقدتم} والمفاعلة فيها لأصل الفعل وكذا قراءة التشديد لأن القراءات يفسر بعضها بعضًا، وقيل: إن ذلك فيها للمبالغة باعتبار أن العقد باللسان والقلب لا أن ذلك للتكرار اللساني كما توهم. والآية كما أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما نزلت حين نهى القوم عما صنعوا فقالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟، وروي عن ابن زيد أنها نزلت في عبد الله بن رواحة كان عنده ضيف فأخرت زوجته عشاءه فحلف لا يأكل من الطعام وحلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل وحلف الضيف لا يأكل إن لم يأكلا فأكل عبد الله بن رواحة وأكلا معه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال عليه الصلاة والسلام له: أحسنت ونزلت.{الايمان فَكَفَّارَتُهُ} الضمير عائد إما على الحنث المفهوم من السياق أو على العقد الذي في ضمن الفعل بتقدير مضاف أي فكفارة نكثه أو على ما الموصولة بذلك التقدير، وأما عوده على الأيمان لأنه مفرد كالأنعام عند سيبويه أو مؤول فرد فكما ترى، والمراد بالكفارة المعنى المصدري وهي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة وتسترها، والمراد بالستر المحو لأن الممحو لا يرى كالمستور وبهذا وجه تأنيثها، وذكر عصام الدين أن فعالًا يستوي فيه المذكر والمؤنث إلا أن ما يستوي فيه ذلك كفعيل إذا حذف موصوفه يؤنث للمؤنث كمررت بقتيلة بني فلان ولا يقال بقتيل للالتباس، وذكر أن التاء يحتمل أن تكون للنقل وأن تكون للمبالغة انتهى.ويدل على أنها بالمعنى المصدري الإخبار عنها بقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مساكين} واستدل الشافعية بظاهر الآية على جواز التكفير بالمال قبل الحنث سواء كان الحنث معصية أم لا، وتقييد ذلك كما فعل الرافعي بما إذا لم يكن معصية غير معول عليه عندهم، ووجه الاستدلال بذلك على ما ذكر أنه سبحانه جعل الكفارة عقب اليمين من غير ذكر الحنث وقال عز شأنه: {ذلك كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} وقيدوا ذلك بالمال ليخرج التكفير بالصوم فإنه لا يكون إلا بعد الحنث عندهم لأنه عند العجز عن غيره والعجز لا يتحقق بدون حنث، وقد قاسوا ذلك أيضًا على تقديم الزكاة على الحول، واستدلوا أيضًا بما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حلف على يمين ورأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير» ونحن نقول: إن الآية تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وهي غير واجبة قبله فثبت أن المراد بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها، وقد اتفقوا على أن معنى قوله سبحانه: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] افطر فعدة من أيام أخر فكذا هذا. والحديث الذي استدلوا به لا يصلح للاستدلال لأنه بعد تسليم دلالة الفاء الجزائية على التعقيب من غير تراخ يقال: إن الواقع في حيزها مجموع التكفير والإيتاء ولا دلالة على الترتيب بينهما ألا ترى أن قوله تعالى: {ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ} [الجمعة: 9] لا يقتضي تقديم السعي على ترك البيع بالاتفاق، وأيضًا جاء في رواية «فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه». ونقل بعضهم عن الشافعية أنهم يجمعون بين الروايتين بأن إحداهما لبيان الجواز والأخرى لبيان الوجوب، وقال عصام الدين: إن تقديم الكفارة تارة وتأخيرها أخرى يدل على أن التقديم والتأخير سيان اه.وأنت تعلم أن الشافعية كالحنفية في أنهم يقدرون في الآية ما أشرنا إليه قبل في تفسيرها إلا أن ذلك عندهم قيد للوجوب وإلا فالاستدلال بالآية في غاية الخفاء كما لا يخفى فتدبر.و {إِطْعَامُ} مصدر مضاف لمفعوله وهو مقدر بحرف وفعل مبني للفاعل وفاعل المصدر يحذف كثيرًا، ولا ضرورة تدعو إلى تقدير الفعل مبنيًا للمفعول لأنه مع كونه خلاف الأصل في تقديره خلاف ذكره السمين فالتقدير هنا فكفارته أن يطعم الحانث أو الحالف عشرة مساكين {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أي من أقصده في النوع أو المقدار، وهو عند الشافعية مد لكل مسكين وعندنا نصف صاع من بر أو صاع من شعير.وأخرج ابن حميد وغيره عن ابن عمر أن الأوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن، والأفضل نحو الخبز واللحم. وعن ابن سيرين قال: كانوا يقولون الأفضل الخبز واللحم والأوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر. ومحل الجار والمجرور النصب لأنه صفة مفعول ثان للإطعام لأنه ينصب مفعولين وأولهما هنا ما أضيف إليه، والتقدير طعامًا أو قوتًا كائنًا من أوسط، وقيل: إنه صفة مصدر محذوف أي إطعامًا كائنًا من ذلك؛ وجوز أن يكون محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي طعامهم من أوسط أو على أنه صفة لإطعام أو على أنه بدل من إطعام.واعترض هذا بأن أقسام البدل لا تتصور هنا. وأجيب بأنه بدل اشتمال بتقدير موصوف وذلك على مذهب ابن الحاجب وصاحب «اللباب». ومتابعيهما ظاهر لأنهم يكتفون لابسة بين البدل والمبدل منه بغير الجزئية والكلية، وأما على مذهب الجمهور فلأنهم يشترطون اشتمال التابع على المتبوع لا كاشتمال الظرف على المظروف بل من حيث كونه دالًا عليه إجمالًا ومتقاضيًا له بوجه ما بحيث تبقى النفس عند ذكر الأول متشوقة إلى ذكر الثاني فيجاء بالثاني ملخصًا لما أجمله الأول ومبينًا له، ويعدون من هذا القبيل قولهم: نظرت إلى القمر فلكه كما صرح به ركن الدين في «شرح اللباب». ولا يخفى أن إطعام عشرة مساكين دال على الطعام إجمالًا ومتقاض له بوجه. واختار بعض المحققين أنه بدل كل من كل بتقدير إطعام من أوسط نحو أعجبني قرى الأضياف قراهم من أحسن ما وجد، وما إما مصدرية وإما موصولة اسمية والعائد محذوف أي من أوسط الذي تطعمونه.وجوز أبو البقاء تقديره مجرورًا بمن أي تطعمون منه، ونظر فيه السمين بأن من شرط العائد المحذوف المجرور بالحرف أن يكون مجرورًا ثل ما جربه الموصول لفظًا ومعنى ومتعلقًا والحرفان هنا وإن اتفقا من وجه إلا أن المتعلق مختلف لأن من الثانية متعلقة بتطعمون والأولى ليست متعلقة بذلك. ثم قال: فإن قلت الموصول غير مجرور بمن وإنما هو مجرور بالإضافة. فالجواب أن المضاف إلى الموصول كالموصول في ذلك اه. وقد قدمنا آنفًا نحو هذا النظر، وأجاب بعضهم عن ذلك بأن الحذف تدريجي ولا يخفى أن فيه تطويلًا للمسافة.والأهلون جمع أهل على خلاف القياس كأرض وأرضون إذ شرط هذا الجمع أن يكون علمًا أو صفة وأهل اسم جامد، قيل: والذي سوغه أنه استعمل كثيرًا عنى مستحق فأشبه الصفة. وروي عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ {أهاليكم} بسكون الياء على لغة من يسكنها في الحالات الثلاث كالألف وهو أيضًا جمع أهل على خلاف القياس كليال في جمع ليلة. وقال ابن جني: واحدهما ليلاة وأهلاة وهو محتمل كما قيل لأن يكون مراده أن لهما مفردًا مقدرًا هو ما ذكر ولأن يكون مراده أن لهما مفردًا محققًا مسموعًا من العرب هو ذاك، وقيل: إن أهال جمع أهلون وليس بشيء.{أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} عطف كما قال أبو البقاء على إطعام واستظهره غير واحد، واختار الزمخشري أنه عطف على محل {مِنْ أَوْسَطِ} ووجهه فيما نسب إليه بأن {مِنْ أَوْسَطِ} بدل من الإطعام والبدل هو المقصود ولذلك كان المبدل منه في حكم المنحى فكأنه قيل: فكفارته من أوسط ما تطعمون. ووجه صاحب «التقريب» عدوله عن الظاهر بأن الكسوة اسم لنحو الثوب لا مصدرًا، فقد قال الراغب: الكساء والكسوة اللباس فلا يليق عطفه على المصدر السابق مع أن كليهما فيما يتعلق بالمساكين، وبأنه يؤدي إلى ترك ذكر كيفية الكسوة وهو كونها أوسط، ثم قال: ويمكن أن يجاب عن الأول بأن الكسوة إما مصدر كما يشعر به كلام الزجاج أو يضمر مصدر كالإلباس، وعن الثاني بأن يقدر أو كسوتهم من أوسط ما تكسون وحذف ذلك لقرينة ذكره في المعطوف عليه أو بأن تترك على إطلاقها إما بإرادة إطلاقها أو بإحالة بيانها على الغير، وأيضًا العطف على محل {مِنْ أَوْسَطِ} لا يفيد هذا المقصود وهو تقدير الأوسط في الكسوة فالإلزام مشترك ويؤدي إلى صحة إقامته مقام المعطوف عليه وهو غير سديد اه.واعترض بعض المحققين على ما نسب إلى الزمخشري أيضًا بأن العطف على البدل يستدعي كون المعطوف بدلًا أيضًا وإبدال الكسوة من {إِطْعَامُ} لا يكون إلا غلطًا لعدم المناسبة بينهما أصلًا وبدل الغلط لا يقع في الفصيح فضلًا عن أفصح الأفصح. ومنع عدم الوقوع مما لا يلتفت إليه، وجعل غير واحد هذا العطف من باب:كأنه قيل إطعام هو أوسط ما تطعمون أو إلباس هو كسوتهم على معنى إطعام هو إطعام الأوسط وإلباس هو إلباس الكسوة وفيه إيهام وتفسير في الموضعين. واعترض بأن العطف على هذا يكون على المبدل منه لا البدل، وأجيب بأن المراد أنه بالنظر إلى ظاهر اللفظ عطف على البدل وهو كما ترى، واعترض الشهاب على دعوى أن الداعي للزمخشري عن العدول إلى الظاهر إلى اختيار العطف على محل {مِنْ أَوْسَطِ} تحصيل التناسب بين نوعي الكفارة المتعلقة بالمساكين بأنه كيف يتأتى ذلك وقد جعل العطف على {مِنْ أَوْسَطِ} على تقدير بدليته وهو على ذلك التقدير صفة إطعام مقدر انتهى.وقد علمت أن هذا رأي لبعضهم. وبالجملة فيما ذهب إليه الزمخشري دغدغة حتى قال العلم العراقي: إنه غلط والصواب العطف على {إِطْعَامُ}، وقال الحلبي: ما ذكره الزمخشري إنما يتمشى على وجه وهو أن يكون {مِنْ أَوْسَطِ} خبرًا لمبتدأ محذوف يدل عليه ما قبله تقديره طعامهم من أوسط فالكلام تام على هذا عند قوله سبحانه: {عَشَرَةِ مساكين} ثم ابتدأ أخبارًا آخر بأن الطعام يكون أوسط كذا. وأما إذ قلنا إن {مِنْ أَوْسَطِ} هو المفعول الثاني فيستحيل عطف {كِسْوَتُهُمْ} عليه لتخالفهما إعرابًا انتهى.ثم المراد بالكسوة ما يستر عامة البدن على ما روي عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وأبي يوسف فلا يجزي عندهما السراويل لأن لابسه يسمى عريانًا في العرف لكن ما لا يجزئه عن الكسوة يجزئه عن الإطعام باعتبار القيمة، وفي اشتراط النية حينئذٍ روايتان. وظاهر الرواية الإجزاء نوى أو لم ينو. وروي أيضًا أنه إن أعطى السراويل المرأة لا يجوز وإن أعطى الرجل يجوز لأن المعتبر رد العري بقدر ما تجوز به الصلاة وذلك ما به يحصل ستر العورة والزائد تفضل للتجمل أو نحوه فلا يجب في الكسوة كالإدام في الطعام والمروي عن محمد أن ما تجوز فيه الصلاة يجزئ مطلقًا. والصحيح المعول عليه عندنا هو الأول، ويشترط أن يكون ذلك مما يصلح للأوساط وينتفع به فوق ثلاثة أشهر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كانت العباءة تجزئ يومئذٍ، وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه يجزئ قميص أو رداء أو كساء، وعن الحسن أنها ثوبان أبيضان. وروى الإمامية عن الصادق رضي الله تعالى عنه أنها ثوبان لكل مسكين ويجزئ ثوب واحد عند الضرورة واشترط أصحابنا في المسكين أن يكون مراهقًا فما فوقه فلا يجزئ غير المراهق على ما ذكره الحصكفي نقلًا عن البدائع في كفارة الظهار، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آية كفارة الظهار أن المراد من الإطعام التمكين من الطعم وتحقيق الكلام في ذلك على أتم وجه. وقرئ {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} بضم الكاف وهو لغة قدوة في قدروة وأسوة في أسوة. وقرأ سعيد بن المسيب واليماني {أَوْ} بكاف الجر الداخلة على أسوة وهي كما قال الراغب الحال التي يكون الإنسان عليها في اتباع غيره إن حسنًا وإن قبيحًا. والهمزة كما قال غير واحد: بدل من واو لأنه من المواساة. والجار والمجرور خبر مبتدأ محذوف والتقدير أو طعامهم كأسوة أهليكم، وقال السعد: الكاف زائدة أي أو طعامهم أسوة أهليكم، وقيل: الأولى أن يكون التقدير طعام كأسوتهم على الوصف فهو عطف أيضًا على {مساكين مِنْ أَوْسَطِ} وعلى هذه القراءة يكون التخيير بين الإطعام والتحرير في قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فقط وتكون الكسوة ثابتة بالسنة.وزعم أبو حيان أن الآية تنفي الكسوة وليس بشيء، وقال أبو البقاء: المعنى مثل أسوة أهليكم في الكسوة فلا تكون الآية عارية عن الكسوة وفيه نظر إذ ليس في الكلام ما يدل على ذلك التقدير.والمراد بتحرير رقبة إعتاق إنسان كيف ما كان. وشرط الشافعي عليه الرحمة فيه الإيمان حملًا للمطلق هنا على المقيد في كفارة القتل. وعندنا لا يحمل لاختلاف السبب. واستدل بعض الشافعية على ذلك بأن «الكفارة حق الله تعالى وحق الله سبحانه لا يجوز صرفه إلى عدو الله عز اسمه كالزكاة. ونحن نقول: المنصوص عليه تحرير رقبة وقد تحقق. والقصد بالإعتاق أن يتمكن المعتق من الطاعة بخلوصه عن خدمة المولى ثم مقارفته المعصية وبقاؤه على الكفر يحال به إلى سوء اختياره». واعترض بأن لقائل أن يقول: نعم مقارفته المعصية يحال به إلى ما ذكر لكن لم لا يكون تصور ذلك منه مانعًا عن الصرف إليه كما في الزكاة؟ وأجيب بأن القياس جواز صرف الزكاة إليه أيضًا لأن فيه مواساة عبيد الله تعالى أيضًا لكن قوله صلى الله عليه وسلم: «خذها من أغنيائهم وردها إلى فقرائهم» أخرجهم عن المصرف.وقد ذكر بعض أصحابنا ضابطًا لما يجوز إعتاقه في الكفارة وما لا يجوز فقال: متى أعتق رقبة كاملة الرق في ملكه مقرونًا بنية الكفارة وجنس ما يبتغي من المنافع فيها قائم بلا بدلا جاز وإن لم يكن كذلك فإنه لا يجوز وهل يجوز عتق الأصم أم لا؟ قولان، وفي الهداية، «ويجوز الأصم والقياس أن لا يجوز وهو رواية النوادر لأن الفائت جنس المنفعة إلا أنا استحسنا الجواز لأن أصل المنفعة باق فإنه إذا صيح عليه يسمع حتى لو كان بحال لا يسمع أصلًا بأن ولد أصم وهو الأخرس لا يجزئه. انتهى.ومعنى أو إيجاب إحدى الخصال الثلاث مطلقًا وتخيير المكلف في التعيين ونسب إلى بعض المعتزلة أن الواجب الجمع ويسقط واحد. وقيل: الواجب متعين عند الله تعالى وهو ما يفعله المكلف فيختلف بالنسبة إلى المكلفين. وقيل: إن الواجب واحد معين لا يختلف لكن يسقط به وبالآخر. وتفاوتها قدرًا وثوابًا لا ينافي التخيير المفوض تفاوته إلى الهمم وقصد زيادة الثواب فإن الكسوة أعظم من الإطعام والتحرير أعظم منهما. وبدأ سبحانه بالإطعام تسهيلًا على العباد. وذكر غير واحد من أصحابنا أن المكلف لو أدى الكل جملة أو مرتبًا ولم ينو إلا بعد تمامها وقع عنها واحد هو أعلاها قيمة ولو ترك الكل عوقب بواحد هو أدناها قيمة لسقوط الفرض بالأدنى.وتحقيق ذلك في الأصول.{فَمَن لَّمْ يَجِدْ} أي شيئًا من الأمور المذكورة {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ} أي فكفارته ذلك. ويشترط الولاء عندنا ويبطل بالحيض بخلاف كفارة الفطر. وإلى اشتراط الولاء ذهب ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومجاهد وقتادة والنخعي. وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت آية الكفارات قال حذيفة: يا رسول الله نحن بالخيار فقال صلى الله عليه وسلم: «أنت بالخيار إن شئت أعتقت وإن شئت كسوت وإن شئت أطعمت فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعا». وأخرج ابن أبي شيبة وابن حميد وابن جرير وابن أبي داود في المصاحف. وابن المنذر والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي بن كعب أنه كان يقرأ {فصيام ثلاثة أيام متتابعات}. وأخرج غالب هؤلاء عن ابن مسعود أنه كان يقرأ أيضًا كذلك، وقال سفيان: نظرت في مصحف الربيع فرأيت فيه {فمن لم يجد من ذلك شيئًا فصيام ثلاثة أيام متتابعات} وجموع ذلك يثبت اشتراط التتابع على أتم وجه، وجوز الشافعي رحمه الله تعالى التفريق ولا يرى الشواذ حجة، ولعل غير ذلك لم يثبت عنده واعتبر عدم الوجدان والعجز عما ذكر عندنا وقت الأداء حتى لو وهب ماله وسلمه ثم صام ثم رجع بهبته أجزأه الصوم كما في المجتبى، ونسب إلى الشافعي رضي الله تعالى عنه اعتبار العجز عند الحنث. ويشترط استمرار العجز إلى الفراغ من الصوم فلو صام المعسر يومين ثم قبل فراغه ولو بساعة أيسر ولو وت ورثه موسرًا لا يجوز له الصوم ويستأنف بالمال. ولو صام ناسيًا له لم يجز على الصحيح، واختلف في الواجد فأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال: إذا كان عنده خمسون درهمًا فهو ممن يجد ويجب عليه الإطعام وإن كان عنده أقل فهو ممن لا يجد ويصوم. وأخرج عن النخعي قال: إذا كان عنده عشرون درهمًا فعليه أن يطعم في الكفارة، ونقل أبو حيان عن الشافعي وأحمد ومالك أن من كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته يومه وليلته وعن كسوته بقدر ما يطعم أو يكسو فهو واحد، وعن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد.{ذلك} أي الذي مضى ذكره {كَفَّارَةُ أيمانكم إِذَا حَلَفْتُمْ} أي وحنثتم وقد مر تفصيل ذلك. و{إِذَا} على ما قال السمين لمجرد الظرفية وليس فيها معنى الشرط، وجوز أن تكون شرطية ويكون جوابها محذوفًا عند البصريين، والتقدير إذا حلفتم وحنثتم فذلك كفارة أيمانكم. ويدل على ذلك ما تقدم أو هو ما تقدم عند الكوفيين والخلاف بين الفريقين مشهور {واحفظوا أيمانكم} أي راعوها لكي تؤدوا الكفارة عنها إذا حنثتم أو احفظوا أنفسكم من الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية أو لا تبذلوها وأقلوا منها كما يشعر به قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لايمانكم} [البقرة: 224] وعليه قول الشاعر: أو احفظوها ولا تنسوا كيف حلفتم تهاونًا بها وصحح الشهاب الأول. واعترض الثاني بأنه لا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن الفعل معصية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «فليأت الذي هو خير وليكفر» وقال سبحانه: {فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} [التحريم: 2] فثبت أن الحنث غير منهي عنه إذا لم يكن معصية فلا يجوز أن يكون {فِى أيمانكم} نهيًا عن الحنث، والثالث بأنه ساقط واه لأنه كيف يكون الأمر بحفظ اليمين نهيًا عن اليمين وهل هو إلا كقولك: احفظ المال عنى لا تكسبه، وأما البيت فلا شاهد فيه لأن معنى حافظ ليمينه أنه مراع لها بأداء الكفارة ولو كان معناه ما ذكر لكان مكررًا مع ما قبله أعني قليل الألايا. واعترض الرابع بأنه بعيد فتدبر {كذلك} أي ذلك البيان البديع {يُبَيّنُ الله لَكُمْ آياته} أعلام شريعته وأحكامه لا بيانًا أدنى منه، وتقديم {لَكُمْ} على المفعول الصريح لما مر مرارًا. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمة التعليم أو نعمه الواجب شكرها.
|